في المقال الأول من هذه السلسلة، تحدثنا عن العوامل المؤثرة في سيكولوجية المرأة الحامل. في هذا المقال، الثالث والأخير من هذه السلسلة، نتحدث عن الإضطرابات النفسية المصاحبة للحمة وكيفية علاجها.
الاضطرابات النفسية المصاحبة للحمل
يمكن أن تصاب المرأة الحامل بأي اضطراب نفسي، ولكن هناك بعض الاضطرابات المرتبطة بالذات بفترة الحمل، وغالباً ما تكون هذه الاضطرابات نتيجة التغيرات الهرمونية في فترة الحمل.. تلك التغيرات التي تؤثر في كيمياء الجسم عموماً، وفي كيمياء المخ على وجه الخصوص، وتعيد ضبط بعض المراكز في “ما تحت المهاد” (Hypothalamus) فتؤثر في الشهية لبعض الأطعمة وتستثير مراكز القيء فتحدث ميلاً للقيء خصوصاً في فترة الصباح. ونذكر من هذه الاضطرابات ما يلي:
بيكا (Pica) :
في هذه الحالة تأكل المرأة بعض المواد غير المعتادة مثل الطين والنشا والرمل والطباشير والقاذورات. وتوجد هذه الحالة في بعض المجتمعات خاصة في المجتمعات الريفية الفقيرة. وهذا الاضطراب نراه غالباً في الأطفال، وحين يحدث في المرأة الحامل فإنه إما أن يكون حالة من النكوص إلى مراحل النمو المبكرة أو نتيجة إعادة ضبط (Re-setting) "ما تحت المهاد" مما يؤثر في الشهية لبعض المواد الغريبة.
الوحم:
وهو اشتياق المرأة الحامل لبعض الأنواع من الأطعمة بالذات، وعزوفها عن أطعمة أخرى. فمثلاً ربما تشتاق للتفاح أو الخيار أو العنب (حتى في غير موسم هذه الأطعمة) في حين أنها تعاف أنواعاً أخرى من الأطعمة مثل اللحوم فلا تأكلها أو تكره طعم الشاي ورائحته وتنفر من رائحة السجائر.
وهذه الحالة تتشابه في أسبابها مع الحالة السابقة البيكا pica.
الحمل الكاذب (Pseudocyesis)
هو حالة نادرة تحدث في بعض النساء العقيمات، حيث تمر المرأة بفترة اشتياق طويلة للحمل، وبعدها تظهر أعراض الحمل عليها فينتفخ بطنها، وتنقطع الدورة الشهرية، ويتضخم الثديان ويحدث غثيان وقيء في فترة الصباح.
وأبقراط هو أول من وصف هذه الحالة النادرة والطريفة. وهناك حالات شهيرة للحمل الكاذب نذكر منها “ماري تيودور” ملكة إنجلترا (1516-1558م) و“أنا أو” (Anna O) مريضة فرويد الشهيرة التي اعتقدت أنها حملت من طبيبها.
وهذه الحالة تبين قوة تأثير العوامل النفسية على الحالة الجسدية، حيث تمثل نوعاً من “المطاوعة الجسدية” (Somatic compliance) يحدث فيها تغيرات فسيولوجية استجابة لرغبات أو صراعات لا شعورية. وهي تصنف ضمن الاضطرابات النفسجسمية (Psychosomatic) أو الاضطرابات التحولية (Conversion disorders) .
وهذه الحالات تحتاج للعلاج بواسطة معالج نفسي وطبيب نساء وتوليد، حيث يتم عمل تحليل للحمل وعرضه على المريضة مع تدعيمها نفسياً. وهنا تبدأ الأعراض الكاذبة للحمل في الاختفاء تدريجياً، مع استمرار المساندة النفسية للمريضة وربطها بالواقع ومساعدتها على احتماله.
وهناك بعض الحالات تقاوم هذا العلاج ويتكون لديها اعتقاد راسخ لا يتزعزع بوجود الحمل، وهذه الحالات تحتاج للعلاج بواسطة مضادات الذهان (Antipsychotics).
القيء أثناء الحمل:
من الطبيعي في الشهور الأولى للحمل أن تشعر المرأة في الصباح بنوع من الغثيان وأحياناً القيء وهو ما يطلق عليه “علة الصباح” (Morning sickness) وهو حالة طبيعية تنتج من التغيرات الهرمونية وما يتبعها من تغيرات كيميائية أخرى تحدث استثارة في مراكز القيء، وهي غالباً لا تحتاج لعلاج وإنما يكفي طمأنة الحامل بأن ذلك شيء طبيعي . وفي بعض الحالات تسعد المرأة بهذه الأعراض لأنها دليل على وجود الحمل الذي كانت تتمناه ويسعد به من حولها لنفس السبب .
أما في قليل من الحالات فإن القيء يصبح مستمراً في الصباح والمساء ويستمر أيضاً بعد انتهاء الشهور الأولي للحمل، ما يؤدي إلى حالة من الجفاف وفقد الوزن وتغير في التوازن الكيميائي في الجسم. وهذه الحالة تعرف باسم Hyperemesis Gravidarum، وهي حالة تحتاج لتدخل طبي لأنها تؤثر في سلامة الأم وسلامة الجنين، وقد وجد أن بعض هذه الحالات كانت تعاني قبل الولادة من اضطرابات في الكبد أو الكليتين، وبعضها الآخر كان يعاني من اضطرابات الأكل مثل فقد الشهية العصبية أو البوليميا.
الحمل والعلاجات النفسية
وجد من خلال الدراسات أن ما يحدث من تشوهات خلقية بسبب الأدوية لا يتجاوز 3.2% من مجموع التشوهات التي تحدث في الأجنة، وهي نسبة ضئيلة، ولكن تعود أهميتها إلى أنها يمكن تفاديها لذلك فالقاعدة الطبية هي عدم تناول الأدوية، سواء نفسية أو غير نفسية خلال فترة الحمل وخصوصاً الشهور الثلاثة الأولى إلا للضرورة، والضرورة يقررها الطبيب، وحتى في هذه الحالات تستخدم الأدوية الأقل احتمالاً للضرر وبأقل جرعات ممكنة. وقد وضعت منظمة الأدوية والغذاء (F D A ) تقسيماً للأدوية على حسب درجة تأثيرها على الأجنة نوردها فيما يلي:
- المجموعة (أ): ومن أمثلتها: حمض الفوليك والحديد. فلم يثبت لهذه المجموعة أضرار على الجنين من خلال الدراسات المحكمة.
- المجموعة (ب): ومن أمثلتها: الكافيين والنيكوتين والاسيتامينوفين. ويوجد خطر على الجنين في الدراسات التي تمت على الحيوان، ولكن لا توجد دراسات محكمة على الإنسان.
- المجموعة (ج): ومن أمثلتها: الأسبرين والهالوبيريدول والكلوربرومازين. وتوجد تأثيرات ضارة على الأجنة في الحيوانات ولكن لا توجد معلومات حول تأثيرها على الإنسان.
- المجموعة (د): ويمثلها الليثيوم والتتراسيكلين والايثانول. ويوجد خطر على أجنة الإنسان ولذلك تستعمل فقط في الحالات التي تهدد الحياة.
- المجموعة (س): ويمثلها الفالبرويك أسيد (ديباكين) والثاليدوميد وهذه المجموعة لها خطر أكيد على الأجنة في الإنسان ولا تستخدم حتى في المواقف المهددة للحياة.
وهناك الكثير من الأبحاث أجريت على الأدوية النفسية وتأثيراتها في فترة الحمل، وكانت مجمل نتائجها كالتالي:
مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات ليس لها تأثيرات مؤكدة الضرر على نمو الأعضاء في الجنين.
المعلومات المتاحة حالياً تفيد أن التعرض في الشهور الأولى من الحمل لمجموعة الفينوثيازين منخفضة القدرة (Low-Potency Phenothiazine) والليثيوم وبعض مضادات الصرع (Valproicacid & carbamazapine) ومجموعة البنزوديازيبين يمكن أن تؤدي إلى زيادة نسبة حدوث التشوهات الخلقية، ومع هذا فإن الحظر المطلق من استخدام معظم الأدوية النفسية قبل الولادة يعتبر قليل.
وبناء على هذه المعلومات المتاحة من الأبحاث، التي أجريت، نجد أن الكثير من الأدوية النفسية لم يثبت لها تأثير ضار على الأجنة في الإنسان، خصوصاً إذا استخدمناها بعد انقضاء الشهور الثلاثة الأولى. ومع هذا فالقاعدة الطبية توصي بعدم استخدام الأدوية في الشهور الثلاثة الأولى إلا للضرورة وبالجرعات والنوعيات التي يحتمل أن تكون أقل ضرراً. والطبيب المعالج هنا يقرر طبقاً لقاعدة التوازن بين النفع والضرر إلا في أدوية المجموعة الأخيرة (المجموعة س) التي لا يوجد مبرر لاستخدامها في فترة الحمل مهما كانت الظروف.
وفي حالة الخوف من استخدام الأدوية نلجأ – بل من المستحب أن نلجأ – إلى العلاج النفسي من دون أدوية وهو علاج له تأثيراته الإيجابية.
وفي الحالات الشديدة من الاكتئاب والذهان يمكننا استخدام العلاج بجلسات تنظيم الإيقاع الكهربي (ECT) وهي مأمونة في فترة الحمل، ومن أكثر أنواع العلاج فعالية في الحالات الشديدة.
الرعاية النفسية للحامل
يجب أن تبدأ الرعاية النفسية، حتى قبل حدوث الحمل، حيث تتم مقابلة المرأة التي يحتمل أن تمر قريباً بفترة حمل ويناقش معها موقفها من الحمل وتصوراتها عنه وظروف حياتها، وبعد ذلك نمدها بمعلومات وافية عن الحمل ومراحله ومتطلباته وتأثير الأدوية والحالة النفسية على الحمل وتأثير الشاي والقهوة والتدخين والكحوليات ، وفوائد الرياضة البدنية والغذاء المتوازن.
وبمجرد حدوث الحمل يبدأ تقييم المرأة الحامل، من حيث موقفها من الحمل، وهل حدث بترتيب معين أم كان مفاجئاً لها؟ وهل هي متقبلة له أم رافضة؟ وما تأثير ذلك على الجنين؟ وما هو موقف الزوج منه؟ وما هو تأثير ذلك الحمل على اقتصاديات الأسرة وعلى علاقاتها الاجتماعية؟ وما هي متطلباته؟ وكيف توازن المرأة بين احتياجات الحمل واحتياجات الزوج ومسؤوليات العمل؟ ويوضح لها تأثير الضغوط النفسية على صحة الجنين، وأن الضغط النفسي الزائد يمكن أن يسبب إجهاضاً متكرراً دون سبب عضوي واضح، أو يسبب ولادة قبل الأوان أو مضاعفات أخرى في الحمل أو الولادة. وتقييم الحالة النفسية للحامل يعطي فرصة لمتابعتها بعد الولادة حتى لا نفاجأ باضطرابات نفسية شديدة بعد الولادة، ربما تهدد سلامة الأم أو الطفل